(1) مجموعة (2)مجموعة (3)مجموعة (4)مجموعة (5)مجموعة (6)مجموعة (7)مجموعة (8)مجموعة (9)مجموعة (10)مجموعة (11)مجموعة (12)مجموعة (13)مجموعة

::: رجال ونساء أسلموا :::

4-أستاذ الرياضيات الكندي جاري ميلر

أستاذ للرياضيات بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن اسمه جاري ميلر..كندي الأصل..كان قسيساً يدعو للنصرانية وبعد أن من الله عليه بالإسلام وقف يخطب في الناس قائلاً :أيها المسلمون,لو أدركتم فضل ما عندكم علي ما عند غيركم لحمدتم الله أن أنبتكم من أصلاب مسلمة ورباكم في محاضن المسلمين وأنشأكم علي هذا الدين العظيم, إن معني النبوة..معني الألوهية..معني الوحي..الرسالة..البعث..الحساب..كل تلك المعاني-عندكم وعند غيركم-فرق مابين السماء والأرض.ثم يضيف قائلاً: لقد جذبني لهذا الدين وضوح العقيدة ,ذلك الوضوح الذي لا أجده في عقيدة سواهوقصته مع الإسلام هي:
هذا أكبر داعى للنصرانية يعلن إسلامه ويتحول إلى أكبر داعي للإسلام فى كندا ، كان من المبشرين الناشطين جدا في الدعوة إلى النصرانية وأيضا هو من الذين لديهم علم غزير بالكتاب المقدس Bible ....

هذا الرجل يحب الرياضيات بشكل كبير.... لذلك يحب المنطق أو التسلسل المنطقي للأمور....
في أحد الأيام أراد أن يقرأ القرآن بقصد أن يجد فيه بعض الأخطاء التي تعزز موقفه عند دعوته للمسلمين للدين النصراني .... كان يتوقع أن يجد القرآن كتاب قديم مكتوب منذ 14 قرن يتكلم عن الصحراء وما إلى ذلك ..... لكنه ذهل مما وجده فيه .....بل واكتشف أن هذا الكتاب يحتوي على أشياء لا توجد في أي كتاب آخر في هذا العالم .......

كان يتوقع أن يجد بعض الأحداث العصيبة التي مرت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثل وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها أو وفاة بناته وأولاده...... لكنه لم يجد شيئا من ذلك ...... بل الذي جعله في حيرة من أمره انه وجد أن هناك سورة كاملة في القرآن تسمى سورة مريم وفيها تشريف لمريم عليها السلام لا يوجد مثيل له في كتب النصارى ولا في أناجيلهم !!

ولم يجد سورة باسم عائشة أو فاطمة رضي الله عنهم.
وكذلك وجد أن عيسى عليه السلام ذكر بالاسم 25 مرة في القرآن في حين أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يذكر إلا 4 مرات فقط فزادت حيرة الرجل .

أخذ يقرأ القرآن بتمعن أكثر لعله يجد مأخذا عليه ....ولكنه صعق بآية عظيمة وعجيبة ألا وهي الآية رقم 82 في سورة النساء :
{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }

يقول الدكتور ميلر عن هذه الآية : من المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر هو مبدأ إيجاد الأخطاء أو تقصي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها Falsification test...
والعجيب أن القرآن الكريم يدعوا المسلمين وغير المسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه ولن يجدوا.

يقول أيضا عن هذه الآية : لا يوجد مؤلف في العالم يمتلك الجرأة ويؤلف كتابا ثم يقول هذا الكتاب خالي من الأخطاء ولكن القرآن على العكس تماما يقول لك لا يوجد أخطاء بل ويعرض عليك أن تجد فيه أخطاء ولن تجد.

أيضا من الآيات التي وقف الدكتور ميلر عندها طويلا هي الآية رقم 30 من سورة الأنبياء :
{ أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شي حي أفلا يؤمنون }

يقول: إن هذه الآية هي بالضبط موضوع البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل في عام 1973 وكان عن نظرية الانفجار الكبير وهي تنص أن الكون الموجود هو نتيجة انفجار ضخم حدث منه الكون بما فيه من سماوات وكواكب. فالرتق هو الشي المتماسك في حين أن الفتق هو الشيء المتفكك فسبحان الله.

يقول الدكتور ميلر : الآن نأتي إلى الشيء المذهل في أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم والادعاء بأن الشياطين هي التي تعينه والله تعالى يقول :
{ وما تنزلت به الشياطين ، وما ينبغي لهم وما يستطيعون ، إنهم عن السمع لمعزولون } [ الشعراء : الآية 210-212 ]
{ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ]

أرأيتم ؟؟ هل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب ؟؟
يؤلف كتاب ثم يقول قبل أن تقرأ هذا الكتاب يجب عليك أن تتعوذ مني ؟؟
إن هذه الآيات من الأمور الإعجازية في هذا الكتاب المعجز ! وفيها رد منطقي لكل من قال بهذه الشبهة.
ومن القصص التي أبهرت الدكتور ميلر ويعتبرها من المعجزات هي قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي لهب.....

يقول الدكتور ميلر :
هذا الرجل أبو لهب كان يكره الإسلام كرها شديدا لدرجة أنه كان يتبع محمد صلى الله عليه وسلم أينما ذهب ليقلل من قيمة ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم, إذا رأى الرسول يتكلم الي إناس غرباء فإنه ينتظر حتى ينتهي الرسول من كلامه ليذهب إليهم ثم يسألهم ماذا قال لكم محمد؟ لو قال لكم أبيض فهو أسود ولو قال لكم ليل فهو نهار والمقصد أنه يخالف أي شيء يقوله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ويشكك الناس فيه .

وقبل 10 سنوات من وفاة أبي لهب نزلت سورة في القرآن أسمها سورة المسد , هذه السورة تقرر أن أبو لهب سوف يذهب إلى النار , أي بمعنى آخر أن أبو لهب لن يدخل الإسلام .

وخلال عشر سنوات كاملة كل ما كان على أبو لهب أن يفعله هو أن يأتي أمام الناس ويقول محمد يقول أني لن أسلم و سوف أدخل النار ولكني أعلن الآن أني أريد أن أدخل في الاسلام وأصبح مسلما !! , الآن مارأيكم هل محمد صادق فيما يقول أم لا ؟ هل الوحي الذي يأتيه وحي إلهي؟
لكن أبو لهب لم يفعل ذلك تماما رغم أن كل أفعاله كانت هي مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه لم يخالفه في هذا الأمر .يعني القصة كأنها تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي لهب أنت تكرهني وتريد أن تنهيني , حسنا لديك الفرصة أن تنقض كلامي !

لكنه لم يفعل خلال عشر سنوات كاملة!! لم يسلم ولم يتظاهر حتى بالإسلام !!
عشر سنوات كانت لديه الفرصة أن يهدم الاسلام بدقيقة واحدة ! ولكن لأن الكلام هذا ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه وحي ممن يعلم الغيب ويعلم أن أبا لهب لن يسلم .

كيف لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن أبا لهب سوف يثبت ما في السورة إن لم يكن هذا وحيا من الله؟؟
كيف يكون واثقا خلال عشر سنوات كاملة أن ما لديه حق لو لم يكن يعلم أنه وحيا من الله؟؟

لكي يضع شخص هذا التحدي الخطير ليس له إلا معنى واحد هذا وحي من الله.
{ تبت يدا أبي لهب وتب
ما أغنى عنه ماله وما كسب
سيصلى نارا ذات لهب
وامرأته حمالة الحطب
في جيدها حبل من مسد }

يقول الدكتور ميلر عن آية أبهرته لاعجازها الغيبي :
من المعجزات الغيبية القرآنية هو التحدي للمستقبل بأشياء لايمكن أن يتنبأ بها الإنسان وهي خاضعة لنفس الاختبار السابق ألا وهو Falsification tests أو مبدأ إيجاد الأخطاء حتى تتبين صحة الشيء المراد اختباره وهنا سوف نرى ماذا قال القرآن عن علاقة المسلمين مع اليهود والنصارى.
القرآن يقول أن اليهود هم أشد الناس عداوة للمسلمين وهذا مستمر الى وقتنا الحاضر فأشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود.

ويكمل الدكتور ميلر :
أن هذا يعتبر تحدي عظيم ذلك أن اليهود لديهم الفرصة لهدم الاسلام بأمر بسيط ألا وهو أن يعاملوا المسلمين معاملة طيبة لبضع سنين ويقولون عندها :
ها نحن نعاملكم معاملة طيبة والقرآن يقول أننا أشد الناس عداوة لكم , إذن القرآن خطأ ! , ولكن هذا لم يحدث خلال 1400 سنة !! ولن يحدث لأن هذا الكلام نزل من الذي يعلم الغيب وليس إنسان.

يكمل الدكتور ميلر :
هل رأيتم أن الآية التي تتكلم عن عداوة اليهود للمسلمين تعتبر تحدي للعقول !!
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } [ المائدة : 82 - 84 ]
وعموما هذة الآية تنطبق على الد كتور ميلر حيث أنه من النصارى الذي عندما علم الحق آمن و دخل الإسلام وأصبح داعية له...
وفقه الله

يكمل الدكتور ميلر عن أسلوب فريد في القرآن أذهله لإعجازه :
بدون أدنى شك يوجد في القرآن توجه فريد ومذهل لا يوجد في أي مكان آخر , وذلك أن القرآن يعطيك معلومات معينة ويقول لك : لم تكن تعلمها من قبل.

مثل :
{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } [ سورة آل عمران : آية 44 ]
{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [ سورة هود : آية 49 ]
{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } [ سورة يوسف : آية 102 ]


يكمل الدكتور ميلر:
لا يوجد كتاب مما يسمى بالكتب الدينية المقدسة يتكلم بهذا الأسلوب , كل الكتب الأخرى عبارة عن مجموعة من المعلومات التي تخبرك من أين أتت هذه المعلومات , على سبيل المثال الكتاب المقدس (الإنجيل المحرف) عندما يناقش قصص القدماء فهو يقول لك الملك فلان عاش هنا وهذا القائد قاتل هنا معركة معينة وشخص آخر كان له عدد كذا من الأبناء وأسماءهم فلان وفلان ..الخ .
ولكن هذا الكتاب (الإنجيل المحرف) دائما يخبرك إذا كنت تريد المزيد من المعلومات يمكنك أن تقرأ الكتاب الفلاني أوالكتاب الفلاني لأن هذه المعلومات أتت منه.

يكمل الدكتور جاري ميلر:
بعكس القرآن الذي يمد القارىء بالمعلومة ثم يقول لك هذه معلومة جديدة !! بل ويطلب منك أن تتأكد منها إن كنت مترددا في صحة القرآن بطريقة لا يمكن أن تكون من عقل بشر !!. والمذهل في الأمر هو أهل مكة في ذلك الوقت -أي وقت نزول هذه الآيات - ومرة بعد مرة كانوا يسمعونها ويسمعون التحدي بأن هذه معلومات جديدة لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومه ,, بالرغم من ذلك لم يقولوا : هذا ليس جديدا بل نحن نعرفه , أبدا لم يحدث أن قالوا مثل ذلك ولم يقولوا : نحن نعلم من أين جاء محمد بهذه المعلومات , ايضا لم يحدث مثل هذا , ولكن الذي حدث أن أحدا لم يجرؤ على تكذيبه أو الرد عليه لأنها فعلا معلومات جديدة كليا !!! وليست من عقل بشر ولكنها من الله الذي يعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل

جزاك الله خيرا يا دكتور ميلر على هذا التدبر الجميل لكتاب الله في زمن قل فيه التدبر.من مقالات الدكتور ميلر عن القرآن العظيم:ترجمة: زكي شلطف الطريفي

التعريف بالمؤلِّف:

الدكتور جاري ميلر (عبد الأحد عمر) عالمٌ في الرياضيات واللاهوت المسيحيِّ ومُبشِّرٌ سابق. يُبيِّن كيف أنَّه بإمكاننا تأسيس إيمانٍ صحيحٍ بوضع معايير للحقيقة. ويصوِّر طريقةً مُبسَّطةً وفعالةً لإيجاد الاتجاه الصحيح أثناء البحث عن الحقّ.

وقد كان الدكتور ميلر في إحدى فترات حياته نشطاً في التبشير المسيحيّ، ولكنَّه بدأ مبكِّراً باكتشاف تناقضاتٍ كثيرةٍ في الإنجيل. وفي سنة 1978، حصل أن قرأ القرآن الكريم مُتوقِّعاً بأنَّه أيضاً سيحوي خليطاً من الحقيقة والزَّيْف. لكنَّه ذهل باكتشافه أنَّ رسالة القرآن الكريم كانت مُطابقةً لنفس جوهر الحقيقة الَّتي استخلصها من الإنجيل. فدخل الإسلام، ومنذئذ أصبح نشطاً بتقديمه للناس، بما في ذلك استخدام المذياع والبرامج التلفازيَّة. وهو أيضاً مؤلِّفٌ للعديد من المقالات والنشرات الإسلاميَّة، نذكر منها: ردٌّ موجَزٌ على المسيحيَّة – وجهة نظر المسلم، و القرآن العظيم، و خواطر حول (براهين) أُلوهيَّة المسيح، و أُسُسُ عقيدة المسلم، و الفرق بين الإنجيل والقرآن، و المسيحيَّة التبشيريَّة – تحليلٌ لمسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم..

وَصْفُ القرآن بالعظيم ليس شيئاً يفعله المسلمون فقط – وهم الَّذين يُقدِّرون هذا الكتاب حقَّ قَدْره، وهم به جِدُّ سعداء - بل إنَّ غير المسلمين أيضاً قد صنَّفوه ككتابٍ عظيم. وحقّاً، حتى أولئك الَّذين يكرهون الإسلام كُرهاً شديداً ما زالوا يدعونه عظيماً.

أحد الأشياء الَّتي تفاجئ غير المسلمين الَّذين يتفحَّصون هذا الكتاب عن قُرب، هو أنَّ القرآن لا يتكشَّف لهم كما كانوا يتوقَّعون. فما يفترضونه هو أنَّ بين أيديهم كتابٌ قديمٌ جاء من الصَّحراء العربيَّة قبل أربعة عشر قرناً، ويتوقَّعون بأنَّه بالضرورة يحمل نفس الانطباع –كتابٌ قديمٌ من الصَّحراء. لكنَّهم بعدئذٍ يجدون بأنَّه لا يشبه مُطلقاً ما كانوا يتوقَّعون.

بالإضافة إلى ذلك، واحدٌ من أوِّل الأشياء الَّتي يفترضها بعض النَّاس هو أنَّ هذا الكتاب القديم، ولأنَّه جاء من الصَّحراء، فإنَّه بالضَّرورة يتحدَّث عن الصَّحراء. حسناً, فالقرآن يتحدَّث عن الصَّحراء في بعض مجازاته اللغويَّة الَّتي تصف الصَّحراء؛ ولكنَّه أيضاً يتحدَّث عن البحر, ولقد صوَّر لنا كيف تكون العاصفة على سطح البحر.

قبل بضع سنوات، وصلتنا قصَّةٌ إلى تورونتو (كندا) عن رجلٍ كان بحَّاراً في الأسطول التجاريّ، ويكسب رزقه من عمله في البحر. أعطاه أحد المسلمين ترجمةً لمعاني القرآن الكريم ليقرأها، ولم يكن هذا البحَّار يعرف شيئاً عن تاريخ الإسلام، لكنَّه كان مهتمّاً بقراءة القرآن الكريم. وعندما أنهى قراءته، حمله وعاد به الى المسلم الَّذي أعطاه إياه, وسأله: مُحمَّدٌ هذا (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم), أكان بحَّاراً؟ فقد كان الرجل مندهشاً من تلك الدِّقَّة الَّتي يصف بها القرآن العاصفة على سطح البحر. وعندما جاءه الردُّ: لا، في الحقيقة لم يكن. فمحمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عاش في الصَّحراء. لقد كان هذا كافياً له ليُعلن إسلامه على الفور. لقد كان مُتأثِّراً جدّاً بالوصف القرآنيِّ للعاصفة البحريَّة. لأنَّه بنفسه كان مرَّةً في خِضَمِّها, وكان لذلك يعلم أنَّه أيّاً من كان الَّذي كتب هذا الوصف, فإنَّه لا بُدَّ وقد عاش هذه العاصفة بنفسه. فالوصف الَّذي جاء في القرآن عن العاصفة لم يكن شيئاً يستطيع أن يكتبه أيُّ كاتبٍ من محض خياله. والموج الَّذي من فوقه موجٌ من فوقه سحاب لم يكن شيئاً يمكن لأحدهم تخيُّله والكتابة عنه، بل إنَّه وصفٌ كتبه من يعرف حقاًّ كيف تبدو العاصفة البحريَّة.

هذا مثلٌ واحدٌ على أنَّ القرآن ليس مرتبطاً بزمان أو مكان. ومن المؤكد أنَّ الإشارات العلميَّة الَّتي يُعبِّر عنها لا يمكن أن يكون أصلها من الصَّحراء قبل أربعة عشر قرناً مضت.

لقرونٍ عدَّةٍ قبل ظهور رسالة محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم), كانت هناك نظريَّةٌ معروفةٌ عن الذرَّة وضعها الفيلسوف اليوناني ديموقريتوس. فهذا الفيلسوف والَّذين جاءوا من بعده افترضوا أنَّ المادَّة تتكوَّن من دقائق صغيرةٍ غير مرئيَّةٍ وغير قابلةٍ للانقسام تسمى الذرَّات. وكان العرب أيضاً قد أَلِفُوا هذا المفهوم, فكانت في الواقع كلمة ذرَّة في العربيَّة تعني أصغر جزءٍ كان معروفاً للإنسان.

أمَّا الآن فإنَّ العلم الحديث قد اكتشف بأنَّ هذه الوحدة الأصغر للمادَّة –وهي الذرَّة الَّتي تحمل نفس خصائص المادة الَّتي تنتمي إليها- يمكن تقسيمها إلى مُكوِّناتها. وهذه حقيقةٌ جديدةٌ تُعدُّ نتاجاً للتطوُّر في القرن الماضي. فمن المثير جدّاً للاهتمام أنَّ هذه المعلومة كانت قد وُثِّقت فعلاً في القرآن الكريم قبل ذلك بأربعة عشر قرناً، والَّذي يقول الله تعالى فيه:

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (يونس 61)

فبلا أدنى شك أنَّ مثل هذا التصريح لم يكن شيئاً مألوفاً حتَّى للعربيِّ في ذلك الوقت. فبالنسبة له كانت الذرَّة هي أصغر شيءٍ موجود. وهذا حقاًّ دليلٌ على أنَّ القرآن لم يعف عليه الزَّمن.



مثالٌ آخرٌ على ما يمكن أن يتوقَّع المرء إيجاده في كتابٍ قديم يتعرَّض لموضوع الصحة أو الطب, أنَّ ما فيه من المعلومات ستكون قديمةً وقد عفا عليها الزَّمن. مصادر تاريخيَّةٌ عديدةٌ تقول بأنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أعطى نصائح بخصوص الصحة والنظافة, لكنَّ مُعظم هذه النصائح (الأحاديث الشريفة) لم تَرِد في القرآن. وللوهلة الأولى يبدو هذا لغير المسلمين إهمالاً لا يُمكن التهاون فيه. فهم لا يستطيعون أن يفهموا لماذا لم يُوحِ الله (سبحانه وتعالى) في القرآن مثل هذه المعلومات المفيدة. بعض المسلمين يحاولون توضيح غياب هذه المعلومات من القرآن بالحجَّة التالية: على الرغم من أنَّ نصائح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كانت مناسبةً للوقت الَّذي عاش فيه, فإنَّ الله سبحانه وتعالى كان يعلم في حكمته اللامحدودة أنَّه سيحدث في الأزمان اللاحقة تطوُّراتٌ علميَّةٌ وطبيَّةٌ قد تجعل إرشادات النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تبدو وكأنَّها قد عفا عليها الزَّمن. فعندما تظهر الاكتشافات لاحقاً, من الممكن أن يقول النَّاس بأنَّها تتعارض مع ما قاله النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). لذلك, وحيث إنَّ الله تعالى لم يكن أبداً لُيعطي لغير المسلمين أيَّ فرصةٍ ليدَّعوا بأنَّ القرآن يناقض نفسه، أو يناقض أقوال النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم), فقد أوحى في القرآن المعلومات والأمثلة الَّتي تستطيع أن تصمد أمام كلِّ اختبارات الزَّمن.

على أيَّة حال, عندما يتفحَّص المرء الواقع الحقيقيَّ للقرآن الكريم، وبخصوص وجوده كوحيٍ من الله تعالى, فإنَّ المسألة كلَّها سرعان ما تظهر في منظورها المناسب. والخطأ في مثل حُجَّة غير المسلمين تلك يصبح واضحاً ومفهوماً. فلا بُدَّ أن يكون مفهوماً بأنَّ القرآن وحيٌ من الله تعالى, وبما أنَّه كذلك فإنَّ كلَّ المعلومات الواردة فيه ذات أصلٍ إلهيّ، وأنَّ الله تعالى قد أوحى به من ذاته سبحانه وتعالى، فهو كلامه سبحانه وتعالى الموجود من قبْل الخليقة, وهكذا فلا يمكن لشيءٍ فيه أن يُضاف أو يُحذف أو يُعدَّل. فالقرآن في جوهره كان موجوداً وكاملاً من قبْل خلق النبيِّ مُحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم), لذلك لم يكن من الممكن أن يحوي أيّاً من كلمات أو نصائح النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الخاصَّة. وتضمين مثل هذه المعلومات كانت ستناقض الهدف الَّذي من أجله نزل القرآن, وتعرِّض مرجعيَّته للشُبْهة، وتجعله غير موثوقٍ به كوحيٍ من الله تعالى.

وبناءً على ذلك لم يكن هناك وصفاتٌ علاجيَّةٌ بيتيَّةٌ في القرآن يمكن أن يُدَّعى بأنَّها تقادمت مع مرور الزَّمن؛ ولم يتضمَّن وجهة نظر أيٍّ كان فيما يتعلَّق بالمنفعة الصحيَّة, أو أيِّ الطعام هو الأفضل للأكل, أو ما هو العلاج لهذا أو ذاك المرض. في الواقع, لقد ذكر القرآن شيئاً واحداً فقط له علاقة بالعلاج الطبيّ, وهذا لا يعارضه أحد, حيث يرشدنا الله تعالى أنَّ في العسل شفاءً للنَّاس، ولا أظنُّ أنَّ هناك من يمكنه أن يعارض ذلك!

إذا افترض أحد النَّاس بأنَّ القرآن الكريم من نتاج العقل البشري, فإنَّه سيتوقَّع أنَّه سيعكس ما كان يجول في عقل ذاك الإنسان الَّذي ألَّفه. وهناك حقاًّ بعض الموسوعات والكتب المختلفة الَّتي تدَّعي بأنَّ القرآن الكريم كان من نتاج هَلْوَساتٍ كان النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يمرُّ بها. فإذا كانت هذه الادِّعاءات صحيحة -أي إذا كان القرآن الكريم فعلاً قد أُلِّفَ نتيجةً لبعض المشكلات النفسيَّة عند النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)- فإنَّ الدَّليل على ذلك يجب أن يكون ظاهراً جليّاً فيه. فهل لمِثْل هذا الدَّليل وجود؟ ولكي نحدِّد وجود هذا الدَّليل من عدمه, فإنَّه يجب علينا أوَّلاً أن نتعرَّف على الأمور الَّتي كانت تدور في ذهنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك الوقت, وعندئذٍ يتمُّ البحث عن هذه الأفكار وانعكاساتها في القرآن الكريم.

من المعروف أنَّ حياة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كانت صعبةً جدّاً. فكلُّ بناته (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) توفين قبله عدا واحدة, وكانت لديه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) لسنواتٍ عديدة زوجٌ حبيبةٌ إلى قلبه، وكانت عنده من الأهميَّة بمكان (رضي الله عن أُمِّنا خديجة), وقد فُجِعَ بموتها في مرحلةٍ حرجةٍ من مراحل حياته. ويقيناً أنَّها كانت امرأةً حقّاً، وبكلِّ ما في الكلمة من معنى. لأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) -وعندما جاءه الوحي لأوِّل مرَّة- ذهب إليها مسرعاً يرتعد خوفاً. من المؤكَّد أنَّنا -وحتَّى في أَيَّامنا هذه- لا يمكن أن نجد ببساطةٍ بين العرب من يقول: لقد كنت خائفاً جدّاً لدرجة أنِّي ركضت هارباً إلى زوجي، لأنَّ العرب ببساطةٍ ليسوا كذلك. ومع ذلك فإنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يشعر براحة كافيةٍ مع زوجه لتكون لديه القُدْرة على فعل ذلك. هكذا كانت زوجه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) امرأةً مؤثِّرةً وقويَّة (رضي الله عنها). ومع أنَّ هذه الأمثلة هي بعض ما كان في ذهن محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من أمور، إلَّا أنَّها كافية بقوَّتها لتُثبت هذه المسألة. فعلى الرغم من أنَّ هذه الأمور كان يجب أن تسود كغيرها، أو على الأقلِّ أن تُذكر في القرآن الكريم، إلَّا أنَّه لم يُذكر أيٌّ منها –فلم تُذكر وفاة أولاده، ولا وفاة زوجه ورفيقته الحبيبة، ولا وصف خوفه من الوحي؛ ذلك الخوف الَّذي تقاسمه مع زوجه بتلك الطريقة الغاية في الجمال؛ لم يُذكر شيئٌ من ذلك. مع أنَّ هذه الأمور لا بُدَّ وأن تكون قد جرحته، وأزعجته، وسبَّبت له الألم والحزن خلال مراحل حياته النفسيَّة (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام).

إنَّ فهم القرآن الكريم بطريقةٍ علميَّةٍ حقيقيَّةٍ ممكنٌ للغاية، وذلك لأنَّ القرآن الكريم يقدِّم شيئاً لا تقدِّمه الكتب السماويَّة الأخرى خاصَّة أو الأديان الأخرى عامَّة. إنَّ في القرآن ما يطلبه العلماء. هناك الكثير في هذه الأيَّام ممَّن لديهم نظريَّاتٍ عن طريقة عمل الكون، إنَّهم في كلِّ مكان من حولنا, لكنَّ مجتمع أهل العلم لا يكلِّف نفسه حتَّى بالاستماع إليهم. وذلك لأنَّ المجتمع العلميَّ -وخلال القرن الماضي- وضع شرطاً لقبول مناقشة النظريَّات الجديدة، وهو ما يُسمَّى اختبار الزَّيف(أو الخطأ). فهم يقولون: إن كانت لديك نظريَّة، فلا تزعجنا بها حتى تحضر لنا مع هذه النظريَّة طريقةً ما تُثبت إن كنت على صوابٍ أم على خطأ.

مثل هذا الاختبار كان بالتأكيد هو السَّبب الَّذي جعل العلماء يستمعون لآينشتاين في مطلع هذا القرن. لقد جاء بنظريَّةٍ جديدةٍ، وقال: أنا أعتقد بأنَّ الكون يعمل بهذه الطَّريقة, وها هي ثلاث طُرُقٍ لتُثبت إنْ كنت مخطئاً! بعدئذٍ وضع العلماء نظريَّته تحت الاختبار لمدَّة ستِّ سنوات, فنَجَحَتْ في اجتياز الاختبارات، وبالطُّرق الثَّلاث كلِّها. طبعاً, هذا لم يثبت أنَّه كان عظيماً, بل أثبت فقط أنَّه يستحقُّ أنْ يُستمع له, لأنَّه قال: هذه هي نظريَّتي, وإنْ أردتم إثبات أنِّي مخطئٌ فافعلوا هذا أو جرِّبوا ذاك. وهذا هو بالضَّبط ما يقدِّمه القرآن الكريم -اختباراتٌ للزَّيف. بعض هذه الاختبارات أصبحت مفروغاً منها حيث إنَّها أثبتت صحَّتها, والبعض الآخر ما زال قائماً إلى يومنا هذا. إنَّ القرآن يشير أساساً إلى أنَّه إذا لم يكن هذا الكتاب هو ما يدَّعيه, فما عليكم إلَّا أن تفعلوا هذا أو ذاك لتثبتوا أنَّه مُزيَّف. وخلال ألفٍ وأربعمائة سنة مرَّت لم يستطع أحد بالطبع أن يفعل هذا أو ذاك فيثبت ذلك, لذلك ما زال يعتبر صحيحاً وأصيلاً.

أنا أقترح عليكم أنَّه إذا أراد أحدكم أن يدخل في مناظرةٍ حول الإسلام مع أحد غير المسلمين الَّذين يدَّعون أنَّ لديهم الحقيقة وأنَّكم على الباطل, أن يضع بدايةً كلَّ الحُجَجِ الأخرى جانباً وأن يسأله ما يلي: هل يوجد أيُّ اختبارٍ للزَّيف في دينك؟ هل يوجد في دينك ما يمكن أن يُبيِّن أنَّكم على خطأ إن استطعت أنا أن أُثبت ذلك؛ هل يوجد أيُّ شيء؟! حسناً, أستطيع أن أعدك منذ الآن أنَّه لن يكون لدى أيٍّ منهم أيُّ اختبار أو إثبات؛ لا شيء ! وذلك لأنَّهم ليس لديهم أدنى فكرةٍ أنَّه يتوجَّب عليهم حين عرضهم ما يؤمنون به على النَّاس أن يقدِّموا لهم الفرصة لإثبات أنهَّم مخطئون إن استطاعوا. ومع هذا, فإنَّ الإسلام يقدِّم لهم ذلك. ومثالٌ رائعٌ على كيفيَّة تزويد القرآن الكريم الإنسان بفرصةٍ ليتثبَّت من أصالته، وأن (يثبت زيفه) جاء في السُّورة الرابعة. وأقول بصدق أنِّي كنت مندهشاً حين اكتشفت هذا التحدِّي لأوَّل مرَّة. يقول الله تعالى:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (النساء 82)

فهذا يمثِّل تحدِّياً واضحاً لغير المسلمين، لأنَّه (وبطريقةٍ غير مباشرة) يدعوهم لإيجاد أيِّ خطأ. وحقَّاً -إن وضعنا الجديَّة أو الصُّعوبة في هذا التحدِّي جانباً- فإنَّ تقديم مثل هذا التحدِّي -في المقام الأوَّل- ليس حتَّى من طبيعة البشر، فهو يتعارض مع تكوين الشخصيَّة البشريَّة. فالإنسان لا يتقدَّم لاختبارٍ في المدرسة، ثمَّ بعد إنهاء الاختبار يكتب ملحوظةً للمُصَحِّحِ يقول فيها: هذه الإجابات مثاليَّة، ولا يوجد فيها أيُّ خطأ. فجد خطأً واحداً إن استطعت! فالإنسان ببساطةٍ لا يفعل ذلك. فذاك المعلِّم ما كان ليذوق طعم النَّوم حتى يجد خطأً ما! ومع ذلك فإنَّ هذه هي الطَّريقة الَّتي يصل بها القرآن إلى النَّاس.

موقفٌ آخرٌ مثيرٌ للدَّهشة يتكرَّر في القرآن كثيراً، ويتعامل مع نُصح القارئ. فالقرآن يُعْلِمُ القارئ عن حقائق مختلفةٍ ثمَّ يُعطيه النَّصيحة بأنَّه إن كان يريد أن يعرف أكثر عن هذا أو ذاك، أو إن كان يشكُّ فيما قيل، فما عليه عندئذٍ إلَّا أن يسأل أولئك الَّذين يملكون العلم والمعرفة. وهذا موقفٌ مدهش، فمن غير المعتاد أن يُؤلَّف كتابٌ من قِبَلِ إنسانٍ لا يملك أيَّ خلفيَّةٍ جغرافيَّة، أو نباتيَّة، أو أحيائيَّة.. إلخ، ويبحث فيه مثل هذه الموضوعات، وبعدئذٍ ينصح القارئ بأن يسأل أهل العلم إن كان في رَيْبٍ من شيء. يقول الله تعالى في القرآن العظيم:

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (الأنبياء 7)

في كلِّ عصرٍ من العصور السابقة –وحتَّى الآن- كان هناك علماء مسلمون يتتبَّعون إرشادات القرآن، وقد توصَّلوا إلى اكتشافاتٍ مذهلة. فإذا نظر أحدنا إلى أعمال العلماء المسلمين لعصورٍ عديدةٍ مضت، فسيجد أنَّهم كانوا ممتلئين بالاستشهادات القرآنيَّة. فأعمالهم تُبيِّن أنَّهم قاموا بالبحث في مكانٍ ما عن شيءٍ ما، وقد أكَّدوا أنَّ سبب بحثهم في مثل هذا المكان أو ذاك بالذَّات لأنَّ القرآن أرشدهم في ذلك الاتجاه. فمثلاً يشير القرآن إلى خلق الإنسان، ثمَّ يحثُّ القارئ على البحث في ذلك! فهو يعطي القارئ لمحةً أين يبحث، ويخبره بأنَّه سيجد معلوماتٍ أكثر عن ذلك. وهذه هي نوعيَّة الأشياء الَّتي يبدو أنَّ المسلمين اليوم يبحثونها بتوسُّع، والمثل التالي يصوِّر ذلك، مع مراعاة أنَّ ذلك لا يحدث باستمرار؛ وأنَّه لا يحدث دائماً بنفس الطريقة.

قبل عدَّة سنوات, قام بعض المسلمين من الرِّياض –في المملكة العربيَّة السعوديَّة- بجمع كلِّ الآيات القرآنيَّة الَّتي تتحدَّث عن علم الأَجِنَّة، وهو العلم الَّذي يدرس مراحل نموِّ الجنين في الرَّحم؛ ثمَّ قالوا: هذا ما يقوله القرآن الكريم. فهل هو حقّ؟ في الحقيقة، لقد أخذوا بنصيحة القرآن الكريم: فاسألوا أهل الذِّكر إن كنتم لا تعلمون. وحصل أن اختاروا أستاذاً جامعيّاً في علم الأجنَّة من جامعة تورونتو في كندا، ولم يكن مسلماً. هذا الأستاذ يُدعى كيث موور, وهو مؤلِّفٌ للعديد من الكتب في علم الأجنَّة، ويُعدُّ من الخبراء العالميِّين المُبرِّزين في هذا المجال. وجَّهوا له الدَّعوة إلى الرِّياض, ثمَّ قالوا له: هذا ما يقوله القرآن الكريم فيما يخصُّ تخصُّصَكم. فهل هو صحيح؟ ماذا تستطيع أن تخبرنا عن ذلك؟ وأثناء إقامته في الرِّياض, قدَّموا له كلَّ المساعدة الَّتي احتاجها في الترجمة وكلَّ العون الَّذي كان يطلبه. لقد كان مذهولاً جدّاً بما وجد بحيث إنَّه غيَّر بعض النُّصوص في كتبه. في الواقع, قام في الطبعة الثانية لكتابه (قبل أن نولد), وفي الطبعة الثانية من (تاريخ علم الأجنَّة) بإضافة بعض المواد الَّتي لم تكن موجودة في الطبعة الأولى, وذلك لما وجده في القرآن الكريم. وحقّاً فإنَّ هذا يُصوِّر بوضوحٍ أن القرآن الكريم سابقٌ لزمانه, وأنَّ أولئك الَّذين يؤمنون به يعرفون ما لا يعرفه الآخرون.

لقد كان من دواعي سروري أنِّي أجريت لقاءً تلفازيّاً مع الدكتور كيث موور, وتحدَّثنا مُطوَّلاً حول هذا الموضوع, وكان ذلك بالاستعانة بالصور التوضيحيَّة وغيرها. وقد ذكر بأنَّ بعض الأشياء الَّتي ذكرها القرآن الكريم عن نموِّ الإنسان لم تكن معروفةً إلى ما قبل ثلاثين عاماً. لقد ذكر في الواقع موضوعاً مُعيَّناً بشكل خاص, وهو وصف القرآن الكريم للإنسان بالعلقة في إحدى مراحل نموِّه, وأنَّ هذا الوصف كان جديداً بالنسبة إليه, ولكنَّه عندما تفحَّص الأمر وجده حقيقة, وهكذا أضافه إلى كتابه. لقد قال: لم يخطر ببالي ذلك أبداً من قبل. ولهذا فقد ذهب إلى قسم علم الحيوان وطلب صورةً للعلقة. وعندما وجد أنَّها تشبه الجنين تماماً في هذه المرحلة من النموّ, قرَّر أن يضع الصورتين في أحد كتبه (صورة الجنين وصورة العلقة).

بعد ذلك قام الدكتور موور أيضاً بتأليف كتابٍ عن علم الأجنَّة السريريِّ, وعندما نشر هذه المعلومات في تورونتو سبَّبت ضجَّةً كبيرةً في كلِّ أنحاء كندا. لقد كانت في بعض الصُّحف على الصَّفحات الأولى وفي جميع أنحاء كندا, وبعض العناوين الرئيسيَّة كانت شديدة الطَّرافة. فمثلاً, كان أحد العناوين الرئيسيَّة يقول: شيءٌ مدهشٌ وُجِدَ في كتابٍ قديم! ويبدو واضحاً من هذا المثل أنَّ النَّاس لم يفهموا بوضوحٍ حول ماذا كانت كلُّ تلك الضجَّة. وأحد الأمور الَّتي حدثت حقّاً أنَّ أحد الصحفيين سأل الدكتور موور: ألا تعتقد أنَّ العرب ربَّما كانوا يعرفون هذه المعلومات عن هذه الأشياء، أي عن وصف الجنين، وعن شكله وكيف يتغيَّر وينمو؟ فربَّما لم يكن هناك علماء, ولكنَّهم ربَّما قاموا بشيءٍ من التشريح الوحشيِّ على طريقتهم – أي قاموا بتقطيع النَّاس وتفحُّص هذه الأشياء.

فأشار له الدكتور على الفور بأنَّه نسي شيئاً في غاية الأهميَّة, وهو أنَّ كلَّ صور الجنين الَّتي عُرضت في الفيلم قد جاءت من صورٍ أُخِذت عن طريق المجهر؛ وأضاف قائلاً: ليست المسألة هي إنْ كان أحد النَّاس قد حاول اكتشاف علم الأجنَّة قبل أربعة عشر قرناً مضت, ولكنَّها في أنَّه لو حاول ذلك فإنَّه لم يكن باستطاعته رؤية شيءٍ على الإطلاق!

فكلُّ ما يصفه القرآن الكريم عن شكل الجنين هو عندما يكون صغيراً جدّاً ولا يُرى بالعين المجرَّدة, لذا فالمرء بحاجةٍ إلى مجهرٍ ليرى ذلك. إلَّا أنَّ مثل هذه الآلة لم تُكتشف إلَّا قبل أكثر من مائتي عامٍ بقليل. وأضاف الدكتور موور ساخراً: ربَّما كان لدى أحدهم -قبل أربعة عشر قرناً مضت- مجهراً سرِّيّاً, فقام بعمل هذه الأبحاث، ولم يرتكب أثناء ذلك أيَّ خطأٍ يُذكر، ثمَّ علَّم محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ذلك بطريقةٍ ما, وأقنعه بأن يضع هذه المعلومات في كتابه؛ وبعدئذٍ حطَّم مجهره، واحتفظ بسرِّه للأبد. فهل أنت تصدِّق ذلك؟! يجب عليك حقّاً ألَّا تفعل، حتَّى تحضر دليلاً للإثبات, لأنَّ مثل هذه النظريَّة ما هي إلَّا سخافة!

وعندما سُئِل الدكتور موور: كيف تفسِّر إذاً وجود مثل هذه المعلومات في القرآن؟ كان ردُّه: لم يكن هذا ممكناً إلَّا بوحيٍ من الله (سبحانه وتعالى)!

ومع أنَّ المثل المذكور سابقاً عن بحث الإنسان في معلوماتٍ مُحتواةٍ في القرآن الكريم قام به عالمٌ غير مسلم, إلَّا أنَّه يعتبر صحيحاً, وذلك لأنَّ هذا الرَّجل واحدٌ من أهل الذِّكر في هذا المجال. فلو ادَّعى شخصٌ عاديٌّ بأنَّ ما يقوله القرآن حول علم الأجنَّة صحيح، لما كان لزاماً علينا قبول كلامه. على أيَّة حال فإنَّ المركز المرموق والاحترام والتقدير الَّذي يكنُّه المرء للعلماء تجعل الإنسان يفترض تلقائيّاً صحَّة النتائج الَّتي يتوصَّلون اليها نتيجة البحث في موضوعٍ ما. وهذا ما دفع أحد زملاء الدكتور موور -يُدْعى مارشال جونسون, ويعمل بشكلٍ مُكثَّفٍ في مجال علم الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) في جامعة تورونتو- لكي يصبح مُهتمّاً جدّاً بالقرآن الكريم, لأنَّ الحقائق الَّتي ذكرها عن علم الأجنَّة كانت دقيقة. ولذلك سأل المسلمين أن يجمعوا له كلَّ شيءٍ في القرآن الكريم ممَّا له علاقة بتخصُّصه. ومرَّةً أخرى كان النَّاس مندهشين جدّاً من النتائج!

إنَّ عدداً كبيراً من الموضوعات مذكورٌ في القرآن الكريم, ممَّا يتطلَّب بالتأكيد وقتاً طويلاً لتفصيل كلِّ موضوعٍ على حدة. فيكفي من أجل الهدف من هذا النِّقاش أن أقول بأنَّ القرآن الكريم يضع تصريحاتٍ واضحةٍ ودقيقةٍ حول موضوعاتٍ متنوِّعةٍ، وأثناء ذلك ينصح القارئ بالتثبُّت من صحَّتها بالبحث عند العلماء. وكلُّ ما صُوِّر في القرآن أثبت صحَّته بوضوح.

وبلا شك, هناك أمرٌ في القرآن الكريم لا نجده في أيِّ كتابٍ آخر!

فمن المثير للاهتمام أنَّ القرآن الكريم حين يزوِّد القارئ بالمعلومات, فإنَّه كثيراً ما يخبره بأنَّه لم يكن يعلم ذلك من قبل.

(كقوله تعالى في سورة النِّساء : وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113). وقوله تعالى في سورة البقرة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) . )

وطبعاً لا يوجد أيُّ كتابٍ مقدَّسٍ يقوم بتقديم مثل هذا الزَّعم. فكلُّ الكتب المقدَّسة والمخطوطات القديمة الَّتي يملكها النَّاس تحوي بالفعل معلوماتٍ كثيرة, ولكنَّها تذكر دوماً من أين جاءت تلك المعلومات. فمثلاً, عندما يناقش الإنجيل التاريخ القديم, فإنَّه يذكر بأنَّ هذا الملك عاش في المنطقة الفلانيَّة, وأنَّ ذاك خاض المعركة الفلانيَّة, وأنَّ الآخر كان له أبناء كثيرون.. إلخ. وهو دائماً ينصُّ على أنَّك إنْ أردت الحصول على المزيد من المعلومات, فما عليك إلَّا أن تقرأ الكتاب الفلاني أو العلَّاني، لأنَّه من هناك جاءت المعلومات. وباختلافٍ كبيرٍ عن هذا الأسلوب, فإنَّ القرآن الكريم يزوِّد القارئ بالمعلومات, ثمَّ يقول له إنَّ هذه المعلومات شيءٌ جديدٌ لم يكن يعرفه أحدٌ حين نزوله. وطبعاً كان هناك دائماً دعوةٌ للبحث في هذه المعلومات, للتأكُّد من صحَّتها وأصالتها (إنَّها وحيٌ من الله تعالى).

ومن المثير للدَّهشة أنَّ مثل هذا الطَّرْح لم يستطع أبداً أنْ يتحدَّاه أحدٌ من غير المسلمين قبل أربعة عشر قرناً مضت. فالواقع أنَّ أهل مكَّة الَّذين كانوا يكرهون المسلمين كرهاً شديداً, وكانوا يستمعون لهذا الوحي المرَّة تلو المرَّة وهو يدَّعي بأنَّ ما يسمعونه شيءٌ جديدٌ لم يعرفوه من قبل, لم يستطع أحدٌ منهم أن يرفع صوته قائلاً: لا, ليس هذا بجديد. فنحن نعلم من أين جاء محمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بهذه المعلومات، فقد تعلَّمناها في المدرسة!

إنَّهم لم يستطيعوا أبداً تحدِّي أصالة القرآن الكريم, لأنَّه فِعْلاً كان شيئاً جديداً!

ويجب أن نشدِّد هنا على أنَّ القرآن الكريم دقيقٌ بخصوص كلِّ الأمور, وأنَّ هذه الدقَّة هي حقّاً واحدة من خصائص الوحي الإلهي. فمثلاً, دليل التلفون دقيقٌ في معلوماته, لكنَّه ليس وحياً. المشكل الحقيقيُّ هو أنَّ المرء يجب أن يُقِيْم الدَّليل على مصدر المعلومات القرآنيَّة. والتّأكُّد من ذلك من واجب القارئ. فلا يستطيع المرء أن ينكر صحَّة القرآن الكريم -هكذا ببساطة- دون دليلٍ مقنع. طبعاً إنْ وجد أحدُهم خطأً فيه, فإنَّ له الحقَّ أن يقضي بعدم صحَّته، وهذا بالضَّبط ما يشجِّع عليه القرآن الكريم.في إحدى المرَّات جاءني رجلٌ بعد أن أنهيت محاضرةً ألقيتها في جنوب إفريقيا. لقد كان غاضباً جدّاً لما قلتهُ, ولذلك ادَّعى قائلاً: سأذهب إلى بيتي الليلة ولا بُدَّ أن أجد خطأً ما في القرآن. فأجبته طبعاً: أُهنِّئُك. فهذا هو الشيء الأكثر ذكاءً فيما قلته. بالتأكيد, هذا هو الموقف الَّذي يجب أن يتَّخذه المسلمون مع أولئك الَّذين يشكُّون في أصالة القرآن الكريم, لأنَّ القرآن الكريم نفسه يُقدِّم هذا التحدِّي. فحتماً بعد القبول بهذا التحدِّي، والاكتشاف بأنَّ القرآن حقّ, فإنَّهم سيؤمنون به لأنَّهم لم يستطيعوا أن يجرِّدوه من صحَّته؛ بل سيكتسب احترامهم لأنَّهم تأكَّدوا من أصالته بأنفسهم. والحقيقة الأساسيَّة الَّتي يجب أن تُكرَّر كثيراً بخصوص التثبّت من أصالة القرآن الكريم, هي أنَّ عدم قدرة أحدهم على توضيح أيِّ ظاهرةٍ بنفسه لا يلزمه بقبول وجود هذه الظاهرة، أو قبول تفسير شخصٍ آخر لها. وهذا يعني أنَّ عدم قدرة الإنسان على تفسير شيءٍ ما لا يعني أنَّه يجب بالضرورة أن يقبل بتفسير الآخرين. ومع ذلك فإنَّ رفض الإنسان لتفسير الآخرين يعود بالعبء عليه نفسه ليجد جواباً مُقْنِعاً. هذه النظريَّة العامَّة تنطبق على العديد من المفاهيم في الحياة, ولكنَّها تتناسب بشكلٍ كبيرٍ مع التحدِّي القرآني, لأنَّها تشكِّل صعوبةً كبيرةً لمن يقول: أنا لا أومن بالقرآن. ففي اللحظة الَّتي يرفضه فيها, يجد الإنسان نفسه ملزماً بأن يجد التفسير لذلك بنفسه, لأنَّه يشعر بأنَّ تفسيرات الآخرين ليست صحيحة.

في الحقيقة، وخاصَّةً في إحدى الآيات القرآنيَّة الَّتي اعتدت أن أرى أنَّها تُرجمت خطأً إلى الإنجليزيَّة, يذكر الله سبحانه وتعالى رجلاً كان يسمع آيات الله تتلى عليه, إلاَّ أنَّه كان يغادر دون أن يتفحص حقيقة ما سمع. أي أنَّ الإنسان –بطريقةٍ أم بأخرى- مذنبٌ إذا سمع شيئاً ولم يبحثه أو يتفحَّصه ليرى إن كان صحيحاً.

وهذا جاء في قوله تعالى في سورة لقمان الآية/ 7 : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

فالإنسان يُفترض منه أن يُعْمِل عقله بكلِّ المعلومات الَّتي ترده، وأن يقرِّر ما هو الهراء منها ليُلْقِيه بعيداً، وما هو المفيد ليحتفظ به ويستفيد منه فيما بعد. فلا يستطيع المرء أن يترك الأمور على اختلاف أنواعها تزدحم في ذهنه هكذا فقط. بل يجب أن توضع الأمور في فئاتها المناسبة وأن تُفهم حسب ذلك. فمثلاً، إذا كانت المعلومات ما تزال في حاجةٍ إلى تأمُّلٍ، فعندئذٍ يجب أن يُميِّز المرء إن كانت أقرب إلى الصواب، أم هي إلى الخطأ أقرب. ولكن إذا كانت كلُّ الحقائق قد عُرِضَت, فإنَّه عندئذٍ يجب عليه أن يُقرِّر تماماً بين هذين الأمرين. وحتَّى عندما لا يكون المرء إيجابياًّ بخصوص أصالة المعلومة, إلاَّ أنَّه ما زال مطلوباً منه أن يُعْمِل عقله في كلِّ المعلومات ليعترف بأنَّه فقط لا يعرف ذلك على وجه الدقَّة. ومع أنَّ هذه النقطة الأخيرة تبدو وكأنَّها غير ذات قيمةٍ واقعياًّ، إلاَّ أنَّها مفيدةٌ للوصول إلى نتيجةٍ إيجابيَّةٍ فيما بعد، وذلك لأنَّها تُرغم المرء على الأقلِّ بأن يتعرَّف ويبحث ويعيد النظر في الحقائق. وهذا التآلف مع المعلومات سيزوِّد الإنسان بالحد الفاصل عندما تتمُّ الاكتشافات المستقبليَّة وتُعرض معلوماتٌ إضافيَّة. فالشيء المهمُّ هو أن يتعامل المرء مع الحقائق، لا أن ينبذها -هكذا وببساطة- وراء ظهره بدافع العاطفة أو اللامبالاة.

اليقين الحقيقيُّ بخصوص صحَّة القرآن الكريم واضحٌ من خلال الثِّقة الَّتي تُهَيْمِنُ خلال آياته، وهي الثَّقة الَّتي تأتي بطريقةٍ مختلفة، ألا وهي استنزاف البدائل. فالقرآن الكريم أساساً يؤكِّد أنَّه وحيٌ يوحى, فإن كان هناك من لا يصدِّق ذلك, فليثبت له مصدراً آخر! وهذا هو التحدِّي. لدينا هنا كتابٌ مصنوعٌ من الورق والحبر، فمن أين أتى؟ وهو يقول أنَّه وحيٌ إلهي؛ فإن لم يكن كذلك، فما هو مصدره؟ والحقيقة المثيرة هي أنَّه لا يوجد أحدٌ على الإطلاق لديه تفسيرٌ يصلح ليناقض ما جاء في القرآن الكريم. في الواقع, لقد تمَّ استنزاف كلِّ البدائل. وحيث إنَّ هذا الفكر قد أُسِّس من قِبَلِ غير المسلمين فقد اختزلت هذه البدائل لتصبح مقصورةً على مدرستين فكريَّتيْن تبادليّاً، مُصرِّين في ذلك على إحداهما أو على الأخرى. فمن ناحيةٍ توجد مجموعةٌ كبيرةٌ من الَّذين بحثوا في القرآن الكريم لمئات السنين والَّذين يدَّعون (والعياذ بالله): نحن متأكِّدين من شيءٍ واحد, وهو أن ذلك الرَّجل محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان يتوهَّم أنَّه نبي. فقد كان مجنوناً! فهم مقتنعون بأنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان مخدوعاً بطريقةٍ ما. ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ هناك مجموعة أخرى تدَّعي: بوجود هذا الدَّليل (الجنون)، فإنَّنا يقيناً نعرف شيئاً واحداً، وهو أنَّ ذلك الرَّجل محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان كاذباً! وما هو مدعاةٌ للسخرية أنَّ هاتين المجموعتين لا يبدو أبداً أنَّهما تجتمعان دون تناقض. وفي الواقع، فإنَّ العديد من المراجع الَّتي كُتبت عن الإسلام عادةً تدَّعي النظريَّتين معاً. فهم يبدأون بالقول بأنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان مجنوناً، وينتهون بأنَّه كان كاذباً. ويبدو أنَّهم لا يدركون أبداً بأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) لم يكن بالإمكان أن يكون الاثنين معاً! لكنَّ الكثير من المراجع في العادة تذكر هذيْن الأمريْن معاً.

فمثلاً، إذا جُنَّ أحد النَّاس وظنَّ حقاًّ أنَّه نبيّ, فإنَّه لن يقضي الليل بطوله مُخطِّطاً: كيف سأخدع النَّاس غداً ليظنُّوا أنِّي نبيّ؟ فلأنَّه يؤمن فعلاً بأنَّه نبيّ, هو واثقٌ بأنَّ الإجابة على أيِّ تساؤلٍ ستأتيه عن طريق الوحي. وفي واقع الأمر، فإنَّ جزءاً كبيراً من القرآن الكريم نزل على شكل ردود على تساؤلات. فكان أحدهم يسأل رسول الله محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) سؤالاً، فينزل الوحي بالإجابة. ومؤكَّدٌ أنَّ أحد النَّاس إن كان مجنوناً ويعتقد بأنَّ ملاكاً سوف يلقي الإجابة في أُذُنه، فإنَّه عندئذ حين يسأله أحد النَّاس سؤالاً سيظنُّ بأنَّ ملاكاً سيأتيه بالإجابة. فلأنَّه مجنون، هو حقّاً سيظنُّ ذلك. ولن يطلب من السائل الانتظار بُرهةً، ثم يذهب إلى أصحابه ليسألهم: هل يعرف أيٌّ منكم الإجابة؟ فهذا النَّوع من السُّلوك هو ميزةٌ لغير المؤمن بأنَّه نبي. ما يرفض قبوله غير المسلمين هو أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يكون الاثنين معاً, فهو إمَّا أن يكون متوهِّماً وإمَّا كاذباً. وبطريقةٍ أخرى، فهو إمَّا أن يكون واحداً منهما أو لا يكون كلاهما؛ وقطعاً لا يمكنه أن يكون الاثنين معاً! ويجب التأكيد هنا على حقيقة أنَّ هاتين الصفتين –بديهيّاً- هما سمتان شخصيّتان تبادليَّتان. (أي حيث توجد إحداهما فلا وجود للأخرى).

والحوار التالي هو مثالٌ جيّدٌ لهذه الحلقة المفرغة الَّتي يدور فيها غير المسلمين بشكلٍ دائم. فإذا سألت أحدهم: ما هو مصدر القرآن الكريم؟ فإنَّه سيجيبك بأنَّ مصدره هو عقل رجلٍ كان مصاباً بالجنون. عندئذ تسأله: إن كان قد جاء به من رأسه, فمن أين حصل على المعلومات المحتواة فيه؟ فمن المؤكَّد أنَّ القرآن الكريم يذكر أشياء كثيرة لم يكن العرب يعرفونها. ولكي يستطيع أن يفسر الحقيقة الَّتي قدَّمتها له فإنَّه سيغيِّر موقفه ويقول: حسناً, ربَّما لم يكن مجنوناً، بل ربَّما كان بعض الأعاجم يعطونه تلك المعلومات. وهكذا كذب على النَّاس وأخبرهم بأنَّه كان نبيّاً. عند هذه النقطة يجب أن تسأله: إذا كان محمدٌ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كاذباً, فمن أين حصل على ثقته بنفسه؟ ولماذا كان يتصرَّف وكأنَّه كان نبيّاً فِعلاً؟ وفي النِّهاية -وعندما يكون قد حُشر في الزاوية- فإنَّه كالقطَّة سيندفع فجأةً وبسرعةٍ بأوَّل ردٍّ يخطر على باله -ومتناسياً أنَّه قبل ذلك استثنى ذاك الاحتمال- ليدَّعي: حسناً, ربَّما لم يكن كاذباً. ربَّما كان مجنوناً وحقّاً كان يعتقد أنَّه نبيّ. وهكذا يبدأ دورانه في الحلقة المفرغة من جديد.

( وهذا هو ديدن الكفَّار منذ بعثة النبيِّ عليه وآله الصَّلاة والسَّلام, حيث ذكر الله تعالى ذلك في سورة الدُّخان: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ(14) ).

كما ذُكر سابقاً, فإنَّ القرآن الكريم يحوي معلوماتٍ كثيرةٍ لا يمكن نِسبة مصدرها لأحد إلاَّ لله تعالى. فمثلاً، من أخبر محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن سدِّ ذي القرنين، وهو مكانٌ يبعد مئات الأميال إلى الشمال؟ ومن أخبره عن علم الأجنَّة؟ وعندما يُواجَه النَّاس بمثل هذه الحقائق، فإنَّهم –حتَّى وإن كانوا لا يريدون نسبتها إلى مصدرٍ إلهيٍّ- يصنِّفونها تلقائيّاً حسب فرضيَّة أنَّ أحد النَّاس قدَّمها لمحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو بدوره قام باستخدامها لخداع النَّاس. ومع ذلك فإنَّ هذه النظريَّة يمكن دحضها بسؤالٍ بسيط: إذا كان محمَّدٌ كاذباً (حاشاه عليه وآله الصَّلاة والسَّلام)، فمن أين له بكلِّ تلك الثِّقة؟ ولماذا قال للنَّاس مُواجهةً ما لم يستطع أحدٌ منهم قوله أبداً؟ فمثل تلك الثِّقة اعتمدت بالكليَّة على اقتناعه التامِّ بأنَّ ما يأتيه هو وحيٌ إلهيّ.

ومثال على ذلك أنَّه كان للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عمّاً يُكنَّى بأبي لهب. وكان هذا الرَّجل يكره الإسلام لدرجة أنَّه كان يتبع النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أينما ذهب ليُكذِّبه. فكان إذا رأى النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يتحدَّث إلى أحد الغرباء, كان ينتظر حتى يتفرَّقا, ثمَّ يذهب إلى ذاك الغريب ويسأله: ماذا كان يقول لك؟ هل قال أبيض؟ لا، بل هو أسود. هل قال نهار؟ لا، بل هو ليل. وقد كان مُثابراً في قوله عكس ما يسمعه من محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو من المسلمين الآخرين. ورغم ذلك، وقبل عشر سنواتٍ تقريباً من موت أبي لهب، نزلت سورةٌ قصيرةٌ من القرآن الكريم بخصوصه بالذَّات، وتقول بأنَّه سوف يكون من أهل النَّار. وبتعبيرٍ آخر، فإنَّ هذه السُّورة تؤكِّد بأنَّه لن يدخل الإسلام أبداً، وبذلك سيكون محكوماً بالخلود في النَّار. ولمدَّة عشر سنواتٍ بعد نزول هذه السُّورة، كان كلُّ ما عليه قوله هو: لقد سمعت بأنَّه قد نزل على محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأنِّي لن أتغيَّر أبداً –أي أنِّي لن أُصبح مسلماً وسأدخل النَّار. حسناً، أنا أُريد دخول الإسلام الآن. فهل يعجبكم ذلك؟ وماذا تظنُّون بوحيكم الآن؟ ولكنَّه لم يفعل ذلك أبداً، مع أنَّ هذا السُّلوك كان بالضَّبط هو المُتوقَّع من شخصٍ مثله كان دوماً يسعى لمعارضة الإسلام. لقد كان هذا وكأنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قال له: أنت تكرهني وتريد القضاء عليّ؟ هاك، قل هذه الكلمات (الشَّهادتيْن)، ويتمُّ لك ذلك. هيَّا، قُلْها! لكنَّ أبا لهب -ولعشر سنواتٍ كاملة- لم يقلها أبداً! حتَّى أنَّه لم يصبح من المتعاطفين مع الإسلام. فكيف كان بإمكان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يعلم يقيناً بأنَّ أبا لهب سيحقِّق النبوءة القرآنيَّة إنْ لم يكن حقّاً رسول الله تعالى؟! كيف كان بإمكانه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) أن يمتلك مثل تلك الثِّقة ليتحدَّى أحد ألدِّ أعداء الإسلام -ولمدَّة عشر سنواتٍ- مانِحاً إيَّاه الفرصة لتكذيب زعمه النبوَّة؟! والجواب الوحيد هو أنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) كان رسول الله تعالى. فَلِكَيْ يضع نفسه أمام هذا التحدِّي الخطير, لا بُدَّ وأنَّه كان على ثقةٍ تامَّةٍ بأنَّ ما يأتيه هو وحيٌ من الله تعالى.

مثلٌ آخرٌ على الثِّقه الَّتي كان يمتلكها محمَّدٌ بنبوَّته (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) –وما يتبعها من حمايةٍ إلهيَّةٍ له ولرسالته- هو خروجه من مكَّة واختباؤه في الغار مع أبي بكرٍ الصدِّيق (رضي الله عنه) خلال هجرته إلى المدينة المنوَّرة. فقد رآى كلاهما بوضوحٍ أنَّ الكفَّار قد جاءوا لقتلهما، وأصاب الخوف أبا بكرٍ الصدِّيق (رضي الله عنه). ومن المؤكَّد أنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لو كان كاذباً، أو مُزوِّراً، أو أحد الَّذين يحاولون خداع النَّاس ليؤمنوا بنبوَّته، لكان من المتوقَّع أن يقول لصاحبه في مثل هذه الظروف: يا أبا بكر، انظر إن كان بإمكانك إيجاد طريقٍ للخروج من هذا الغار. أو: اخفض نفسك في ذلك الرُّكن هناك، والزم الهدوء. إلاَّ أنَّ ما قاله حقيقةً يصوِّر بوضوحٍ ثقته المطلقة. فقد قال (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) لصاحبه (رضي الله عنه): لا تحزن، إنَّ الله معنا.

والآن، إذا كان أحدهم يدَّعي المعرفة بأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) كان يخدع النَّاس، فمن أين له (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) أن يقف هذا الموقف النوعيّ؟ فواقعيّاً، هذا النوع من التفكير لا يُعدُّ على الإطلاق سمةً للكذَّاب أو المُزيِّف. لهذا –وكما ذُكر سابقاً- فغير المسلمين يظلُّون يدورون ويدورون في الدائرة المُفرغة ذاتها، باحثين عن طريقٍ للخروج منها، لكن بالعثور على طريقةٍ يفسِّرون بها الاكتشافات في القرآن الكريم دون نسبتها إلى مصدرها المناسب. فمن ناحية، كلُّهم -في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة- يقولون: كان الرَّجل كذَّاباً؛ ومن ناحيةٍ أخرى - في أيام الثلاثاء والخميس والسبت- يقولون لك: لقد كان مجنوناً. وما يرفضون قبوله هو أنَّ الإنسان لا يمكن أن يكون الاثنين معاً؛ ومع ذلك فإنَّهم يحتاجون الحُجَّتَيْن معاً لتفسير ما جاء في القرآن الكريم.

قبل سبع سنواتٍ تقريباً, زارني أحد الرُّهبان في بيتي. وفي تلك الحجرة الَّتي كنَّا نجلس فيها كان هناك قرآنٌ على الطاولة ووجهه إلى الأسفل, فلم يعرف الرَّاهب أيّ كتابٍ هو. وفي منتصف نقاشنا, أشرت إلى الكتاب قائلاً: أنا لديَّ الثِّقة بهذا الكتاب. فأجاب ناظراً إلى القرآن الكريم من غير أن يعرف ما هو: حسناً, وأنا أقول لك بأنَّه إن كان ذلك الكتاب ليس الإنجيل، فقد أُلِّف من قِبَلِ الإنسان! فكان ردِّي عليه: دعني أُحدِّثك شيئاً عمَّا جاء في هذا الكتاب. وخلال ثلاثٍ أو أربع دقائق فقط ذكرت له ما يتعلَّق ببضعةٍ من الأمور الموجودة في القرآن الكريم. وبعد تلك الثَّلاث أو الأربع دقائق فقط غيَّر موقفه تماماً وقال: أنت على حقّ. فالإنسان لم يؤلِّف هذا الكتاب، بل الشيطان هو الَّذي ألَّفه! طبعاً، اتِّخاذ مثل هذا الموقف هو غايةٌ في سوء الطَّالع، وذلك لأسبابٍ عدَّة، منها أنَّه عُذْرٌ مُتسرِّعٌ ورخيصٌ كمَخْرَجٍ فوريٍّ من ذلك الوضع المزعج. وفيما يتعلَّق بهذا الأمر، هناك قصَّةٌ مشهورةٌ في الإنجيل تذكر كيف أنَّ بعض اليهود في أحد الأيَّام كانوا شهوداً حين أقام يسوع (عليه الصَّلاة والسَّلام) رجلاً من الموت. كان ذلك الرَّجل ميتاً لأربعة أيَّام، وعندما وصل يسوع، قال ببساطة: انهض! فقام الرَّجل ومشى في طريقه. وحين رأوا هذا المشهد، قال بعض الشُّهود من اليهود مُنْكِرِيْن: هذا هو الشيطان. الشيطان هو الَّذي ساعده! وهذه القصَّة تُكرَّر الآن كثيراً في الكنائس في جميع أنحاء العالم، والنَّاس يذرفون دموعاً غزيرةً لسماعها قائلين: آه، لو كنت هناك، فما كنت لأكون غبيّاً مثل اليهود! ويا للسخرية، فمع هذا فإنَّ هؤلاء النَّاس يفعلون ما فعله اليهود تماماً حين تعرض عليهم -في ثلاثٍ أو أربع دقائق- جزءًا صغيراً فقط من القرآن الكريم؛ وكلُّ ما يستطيعون قوله هو: آه، الشيطان فعل ذلك. الشيطان هو الَّذي ألَّف هذا الكتاب! لأنَّهم حقّاً يكونون قد حُشِروا في الزَّاوية؛ وحين لا يملكون أيَّ إجابةٍ مقبولة، فإنَّهم يلتجئون إلى أسرع وأرخص حُجَّةٍ مُتاحةٍ لهم.

ومثلٌ آخرٌ على استخدام النَّاس لهذا الموقف الضَّعيف يمكن إيجاده في تفسير كفَّار مكَّة لمصدر رسالة محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فقد اعتادوا القول بأنَّ الشيطان هو الَّذي يُملي عليه القرآن! لكنَّ القرآن –كعادته مع أيِّ حُجَّةٍ لهم- يقدِّم الإجابة على ذلك: فيقول الله تعالى في سورة التكوير: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27) .

وهكذا فإنَّ القرآن يعطي ردّاً جليّاً على هذا الادِّعاء. في الواقع، هناك العديد من البراهين في القرآن الكريم جاءت كردٍّ على الادِّعاء بأنَّ الشيطان هو الَّذي أملى على محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) رسالته. فمثلاً في سورة الشعراء:

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212).

وفي مكانٍ آخرٍ في القرآن الكريم يعلِّمنا الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98) سورة النحل.

والآن، فهل بهذه الطريقة يكتب الشيطان كتاباً؟ وهل يقول للإنسان: قبل أن تقرأ كتابي, اسأل الله أن يحفظك منِّي.؟ فما هذا إلاَّ افتراءٌ كبير، كبيرٌ جدّاً. طبعاً، إنَّ بإمكان الإنسان أن يكتب شيئاً كهذا، ولكن هل كان للشيطان أن يفعل ذلك؟ الكثير من غير المسلمين يقولون بوضوحٍ أنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى استنتاجٍ بخصوص هذا الموضوع. فهم من ناحيةٍ يدَّعون بأنَّ الشيطان لم يكن ليفعل مثل هذا الشيء، وحتى لو استطاع فإنَّ الله تعالى لم يكن ليسمح له بذلك، ويؤمنون أيضاً بأنَّ الشيطان أقلَّ بكثيرٍ من الله تعالى. ومن ناحيةٍ أخرى -وفي جوهر ما يطرحونه- هم يزعمون بأنَّ الشيطان يمكنه ربَّما فعل أيِّ شيءٍ يستطيعه الله تعالى. وكنتيجةٍ على ذلك، عندما ينظرون إلى القرآن الكريم -وحتَّى عند انذهالهم بعَظَمَتِهِ- فإنَّهم ما زالوا يصرُّون: الشيطان هو الَّذي فعل ذلك! الحمد لله أن ليس للمسلمين مثل هذا الموقف. فمع أنَّ الشيطان يمتلك بعض القدرات، إلاَّ أنَّ الفرق بينها وبين قدرات الله تعالى كبير جداًّ. ولا يكون المسلم مسلماً إلاَّ إذا آمن بذلك. ومن البديهيِّ أيضاً -حتَّى لدى غير المسلمين- أنَّ الشيطان يمكنه بسهولة أن يقع في الأخطاء، ولذا فمن المتوقَّع أن يناقض نفسه إن حصل وكتب كتاباً. ولهذا فإنَّ الله تعالى يقول في سورة النِّساء: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا(82).

وبالإضافة إلى الحجج الَّتي يقدِّمها غير المسلمين في محاولاتهم التافهة لتبرير وجود الآيات الَّتي لا يفهمونها في القرآن الكريم، فإنَّ هناك هجوماً آخر غالباً ما يظهر كمزيجٍ من النظريَّتين معاً، وهو أنَّ محمَّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كان مجنوناً وكاذباً. فأولئك النَّاس يقترحون أساساً بأنَّه (عليه وآله الصَّلاة والسَّلام) كان مخبولاً، وكنتيجةٍ لتوهُّمه فقد كذب وضلَّل النَّاس. ولهذا اسمٌ في علم النّفس، وهو الميثومانيا Mythomania (المسُّ الأساطيريّ: وهو نزوعٌ مفرطٌ أو غير سويٍّ إلى الكذب والمبالغة.). وهو يعني ببساطة أنَّ الإنسان يكذب، ثمَّ يصدِّق ما كذب. هذا هو ما يدَّعيه غير المسلمين عمَّا كان يعاني منه محمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). إلاَّ أن المشكل الوحيد الَّذي يواجهونه بخصوص هذه الحُجَّة هو أنَّ الإنسان الَّذي يعاني من الميثومانيا لا يمكنه التعامل مع الحقائق مطلقاً، مع أنَّ القرآن الكريم كلّه قائمٌ تماماً على الحقائق. فكلُّ ما فيه يمكن بحثه والتثبُّت من صحَّته. في حين أنَّ الحقائق تعتبر مشكلاً كبيراً للمصاب بالميثومانيا. فعندما يحاول الطبيب النفسيُّ علاج أحد الَّذين يعانون من هذا المرض، فإنَّه باستمرارٍ يواجهه بالحقائق. فمثلاً، إذا كان أحدهم مريضاً نفسيّاً ويدَّعي قائلاً: أنا ملك إنجلترا، فإنَّ الطبيب النفسيَّ لا يقول له: لا، أنت لست كذلك، بل أنت مجنون! فالطبيب لا يفعل ذلك، بل بدلاً من ذلك يواجهه ببعض الحقائق قائلاً: حسناً، أنت تقول بأنَّك ملك إنجلترا، لذا قل لي أين هي الملكة اليوم؟ وأين رئيس وزرائك؟ وأين هم حرَّاسك؟ وعندما يكون لدى هذا المريض مشكلٌ في محاولته التعامل مع هذه الأسئلة، سيحاول إيجاد الأعذار: آه....الملكة....ذهبت إلى بيت أُمِّها. آه....رئيس الوزراء.....حسناً، لقد مات. وفي النِّهاية سيشفى من مرضه تماماً لأنَّه لم يستطع التعامل مع الحقائق. فإذا استمرَّ الطبيب النفسيُّ بمواجهته بحقائق كافية، فإنَّه بالنِّهاية سيواجه الواقع قائلاً: أظنُّ بأنِّي لست ملك إنجلترا. والقرآن يصل إلى كلِّ إنسانٍ يقرأه بنفس الطريقة الَّتي يعالج بها الطبيب النفسيُّ مريضه بالميثومانيا. يقول الله تعالى في سورة يونس: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57).

للوهلة الأولى قد يبدو هذا التصريح غامضاً، ولكنَّ المعنى لهذه الآية يتَّضح عندما يُنْظر إليها على ضوء المثل السابق. فالإنسان يُشفى أساساً من أوهامه بقراءة القرآن الكريم. فهو في جوهره علاجٌ يشفي الضَّالِّين تماماً وذلك بمواجهتهم بالحقائق. ومن المواقف السائدة في القرآن الكريم هو ما يخاطب به النَّاس بأنَّهم يقولون كذا وكذا حول شيء ما؛ فماذا عن هذا أو ذاك؟ وكيف يستطيعون قول ذلك وهم يعلمون؟ وهكذا. (كقوله تعالى في سورة البقرة: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاََ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22))

إنَّه يرغم المرء على تدبُّر الحقيقة وما له علاقة بها، في حين يقوم في نفس الوقت بعلاجه من أوهامه، وذلك لأنَّ الحقائق المقدَّمة من الله تعالى للبشريَّة يمكن توضيحها وفصلها عن كلِّ النظريَّات والحُجج الرَّديئة. إنه نوعٌ خاصٌّ من التعامل مع الأشياء –مواجهة النَّاس بالحقائق- بحيث أسر اهتمام الكثير من غير المسلمين.

وفي الواقع، يوجد مرجعٌ مثيرٌ للاهتمام بخصوص هذا الموضوع في الموسوعة الكاثوليكيَّة الجديدة. ففي فقرةٍ بخصوص موضوع القرآن الكريم تُصرِّح الكنيسة الكاثوليكيَّة: عبر القرون الماضية قُدِّمت نظرياتٌ كثيرةٌ عن أصل القرآن... واليوم لا يوجد إنسانٌ عاقل يقبل بأيٍّ منها.! فها هي الكنيسة الكاثوليكيَّة المٌعمِّرَةِ, والماثلة هنا وهناك لقرونٍ عديدة, تنكر تلك المواقف التافهة لدحض أصل القرآن الكريم. القرآن الكريم بالطبع يمثِّل مشكلاً للكنيسة الكاثوليكيَّة, فهو يصرِّح بأنَّه وحيٌ من الله تعالى, ولذلك هم يدرسونه. ومؤكَّدٌ أنَّهم يودُّون إيجاد برهانٍ على أنَّه ليس كذلك، ولكنَّهم لا يستطيعون. فهم لا يستطيعون إيجاد تفسيرٍ مقبول. لكنَّهم على الأقلِّ شرفاء في بحثهم، ولا يقبلون بأوَّل تفسيرٍ غير مدعومٍ بدليلٍ يأتي إليهم. فالكنيسة تصرِّح بأنَّه -وخلال أربعة عشر قرناً- لم يُقدَّم بعد تفسيرٌ معقول. فهي بذلك على الأقلِّ تعترف بأنَّ القرآن الكريم ليس موضوعاً سهل الإنكار. لكن هناك بالتأكيد آخرون ممَّن هم أقلُّ شرفاً حين يقولون على عَجَل: آه، لقد جاء القرآن من هنا، أو من هناك. وهم حتَّى لا يتفحَّصون مصداقية ما يصرِّحون به في معظم الأحيان. وطبعاً، فإنَّ مثل هذا التصريح من الكنيسة الكاثوليكيَّة يسبِّب للمسيحيِّ العاديِّ شيئاً من الصُّعوبة. وذلك لأنَّه ربَّما يكون لديه أفكاره الخاصَّة عن أصل القرآن، ولكنَّه كعضوٍ في الكنيسة لا يستطيع التصرُّف حقّاً حسب نظريَّته. فمثل هذا التصرُّف قد يكون مناقضاً للخضوع والإخلاص والولاء الَّذي تطلبه الكنيسة. فبموجب عضويَّته في الكنيسة، يتوَّجب عليه قبول ما تعلنه الكنيسة الكاثوليكيَّة دون سؤال، وأن يجعل تعاليمها كجزءٍ من روتينه اليوميّ. لذا، فجوهرياًّ إذا كانت الكنيسة الكاثوليكيَّة في عمومها تقول: لا تستمعوا لتلك التقارير غير المؤكَّدة حول القرآن، فما يمكن أن يقال حول وجهة النَّظر الإسلاميَّة؟ فحتَّى غير المسلمين يعترفون بأنَّ هناك شيئاً في القرآن –شيئاً كان يجب أن يكون معترفاً به- إذاً فلماذا يكون النَّاس عنيدين، وهجوميِّين، وعدائيِّين، حين يقدِّم المسلمون نفس النظريَّة؟ هذا بالتأكيد شيءٌ لأولي الألباب ليتأمَّلوا فيه –شيءٌ للتأمُّل لأولئك الَّذين يعقلون!
قام حديثاً واحدٌ من المفكِّرين القياديِّين في الكنيسة الكاثوليكيَّة –يدعى هانز- بدراسة القرآن الكريم، وأدلى برأيه فيما قرأ. هذا الرَّجل أثبت حضوره القوي على الساحة ولزمنٍ طويل، وهو ذو منزلةٍ رفيعةٍ في الكنيسة الكاثوليكيَّة، وبعد تفحُّص دقيقٍ نشر ما وجده مستنتجاً: إنَّ الله قد كلَّم الإنسان من خلال الإنسان، محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). ومرَّةً أخرى يأتي هذا الاستنتاج من مصدرٍ غير مسلمٍ –وهو مفكِّرٌ قياديٌّ كبيرٌ في الكنيسة الكاثوليكيَّة نفسها! أنا لا أظنُّ بأنَّ البابا يتَّفق معه، ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ رأي مثل هذه الشخصيَّة العامَّة ذائعة الصِّيْت وذات السُّمعة الحسنة يجب أن يكون له وزنه في الدِّفاع عن الموقف الإسلاميّ. ويتوَّجب التَّصفيق له لمواجهته الواقع بأنَّ القرآن الكريم ليس شيئاً يمكن أن يلقى بعيداً بسهولة، وبأنَّ الله تعالى حقّاً هو مصدر كلماته.
يتَّضح من كلِّ ما تقدَّم سابقاً بأنَّ كلَّ البدائل قد استنزفت، ولذا فالفرصة لإيجاد إمكانيَّةٍ أخرى لإنكار القرآن الكريم لا وجود لها. لأنَّ هذا الكتاب إن لم يكن وحياً، فإنَّه عندئذٍ خداع؛ وإن كان خداعاً، فإنَّ على الإنسان أن يتساءل: فما هو مصدره؟ وفي أيِّ جزءٍ منه يقوم بخداعنا؟ وطبعاً فإنَّ الإجابات الصحيحة على هذه التساؤلات تُلقي الضَّوء على أصالة القرآن الكريم، وتُسكت ادعاءات الكفَّار اللاذعة وغير القائمة على دليل.
ومن المؤكَّد أنَّه إذا استمرَّ أولئك النَّاس بالإصرار على أنَّ القرآن الكريم ما هو إلاَّ خداع, فإنَّه يتوَّجب عليهم تقديم البرهان الَّذي يدعم ادعاءهم. فعبء إيجاد البرهان يقع على عاتقهم، وليس على عاتقنا! فلا يُفترض من أحدهم أبداً أن يقدِّم نظريَّةً بدون حقائق كافية تعزِّزها؛ لذا فأنا أقول لهم: أروني خداعاً واحداً! أروني أين يخدعني القرآن الكريم! أروني ذلك، وإن لم تفعلوا، فلا تقولوا لي بأنَّه خداع!




Powered by Quran v2.6